ismagi
racus

المساعدة على التوجيه من الاختيارات الإيهامية إلى الاختيارات الواقعية

mohammed

مشرف منتدى tawjihnet.net
طاقم الإدارة
المساعدة على التوجيه: من الاختيارات الإيهامية إلى الاختيارات الواقعية
بقلم خالد فتاح // مهتم بقضايا التربية والتكوين - مكناس
ftah-khalid.jpg
من الغايات الأساسية للمشروع التربوي الجديد لمنظومة التربية والتكوين، وكما جاء على لسان السيد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني، أنه يتغيى المساهمة في تغيير المدرسة المغربية لتمنح، "بشكل منصف، لكل المواطنين تعليما وتكوينا ذا جودة، مرتكزا على القيم والمبادئ العليا للوطن، ولتأهلهم للاستعداد للمستقبل، والانفتاح، والمساهمة الفاعلة في بناء الرأسمال البشري الذي يحتاج إليه الوطن، وكذا الانفتاح على المبادئ الكونية".
من هذا المنطلق، وفي انتظار إصدار المجلس الأعلى للتربية والتكوين تقريره الاستراتيجي أعدت وزاة التربية الوطنية والتكوين المهني عدة تدابير، اعتبرتها ذات أولوية، تستند على العديد من الدعائم في مقدمها تثمين التكوين المهني ودمجه مع التعليم العام، ليشكلا معا جسدا واحدا يتغيى مساعدة المتعلمات والمتعلمين على استشراف مستقبلهم والمساهمة في بنائه خدمة لذواتهم، من جهة، ورقي بلدهم، من جهة ثانية. مرورا بجعل المتعلم أكثر تمكنا من التعلمات الأساس و أكثر انفتاحا وتحكما في اللغات الأجنبية؛ كما فتحت في وجهه مسارات تكوينية ومدرسية متنوعة حتى يجد كل متعلم لنفسه موطأ قدم في النظام التربوي وفق امكاناته الذاتية واستعداداته المستقبلية؛ وانتهاء بحكامة القطاع حتى يستجيب للانتظارات التي أنتج من أجلها، باعتباره أولوية ثانية بعد الوحدة الترابية.
ورغبة في تحيق هذا المبتغى، انصبت هذه التدابير على عدة إجراءات، بداية بدعم التعلمات الأساس في السنوات الأربع من التعليم الإبتدائي ومسار اكتشاف المهن في السنتين الخامسة والسادسة منه، عبر تحسيس التلاميذ منذ التعليم الابتدائي بأهمية الأنشطة المهنية؛ مرورا بإحداث سلك مهني بالثانوي الإعدادي؛ وانتهاء بإرساء الباكالوريا المهنية والمسالك الدولية للبكالوريا المغربية وذلك لخلق عرض مدرسي وتكويني على مستوى الثانوي التأهيلي يهيئ لمهن مطلوبة بكثرة في سوق الشغل، والتي تمكن حاملي هذه الباكالوريات من ولوج المسارات العليا للتكوين المهني أو التكوينات العليا بالمغرب والخارج بكل سلاسة ويسر.
فالمتأمل لهذه التدابير ولأهدافها وما ترقى الطموح إليه، سكيتشف مند أول وهلة، أن لكي تحقق الأهداف التي أنتجت من أجلها، لامناص من موازاتها بآليات صلبة ومستديمة للمساعدة على التوجيه. فالمنظومة التربوية، عليها السعي لتطوير لدى المتعلمات والمتعلمين كفايات تجعلهم أكثر استقلالية في اختياراتهم المدرسية والتكوينية والمهنية، وعلى مصاحبتهم المستمرة في بناء مشاريعهم الشخصية والحياتية من طرف جل الفاعلين المحيطين بهم داخل المدرسة وخارجها. وذلك لكون الاختيار، مدرسيا كان أو تكوينيا أومهنيا، ما هو إلا نتاج لسيرورة تتفاعل فيها ثلاث أنساق من التمثلات: تمثلات حول الذات وتمثلاث حول التكوينات وتمثلات حول المهن. وأن تكوين أوتغيير أوتصحيح هذه التمثلات، يتفاعل فيه الأسري والمدرسي والمجتمعي بكل مكوناته.
وانسجاما مع هذا التوجه، فالمجتمع بكل مكوناته عليه أن يكون موجها: فالأسرة عليها أن تكون موجهة، والمدرسة أيضا أن تكون موجهة، والمقاولة موجهة، ووسائل الإعلام عليها أن تكون موجهة أيضا، ...فالمجتمع بكل مكوناته عليه أن يكون موجها. والمجتمع الموجه هو مجتمع يعي تمام الوعي أن مساعدة الأفراد على التوجيه والاختيار تتلخص في مساعدتهم على الوعي بقدراتهم الذاتية وعلى تطويرها بهدف اتخاذ قرارات اختيارية واعية ومبررة عبر خلق جسور للتوافق بين خصوصياتهم الذاتية والواقع الذي يعيشون فيه، وكذا مساعدتهم على تقبل ذواتهم وتكوين صور إيجابية نحوها، واختبار هذه الصور في عالمهم الواقعي وتحويلها إلى حقيقة واقعية تكفل لهم من جهة تفتح شخصياتهم ومن جهة أخرى خدمة مجتمعاتهم.
هذه المواكبة المستمرة لكل مكونات المجتمع لأفراده، تنطلق من قناعة راسخة أن الاختيار ليس عملية لحضية، تتم في زمن محدد، بل سيرورة تمتد في الزمن، و تتميز بمراحل متتالية تمكن الفرد من الوصول إلى النضج المهني والقدرة على اتخاذ القرار المناسب، انطلاقا من مرحلة الاختيارات الإيهامية مرورا بمرحلة الاختيارات الوسطية، وانتهاء بمرحلة الاختيارات الواقعية.
تبتدئ مرحلة الاختيارات الإيهامية fantisistes choix مند سن الرابعة، وتتجسد عند سؤال طفل عن المهنة التي يود ممارسها في المستقبل؟. إجابات الأطفال في هذه المرحلة غالبا ما تكون موسومة باختيارات باهرة وعظيمة و مغامرة. اختيارات لاتستند على رؤية موضوعية للأطفال لذواتهم، بقدر ما تعتبر تعبيرا عن حاجات لديهم أو حاجات للمحيطين به: أريد أن أصبح طبيبا لمعالجة جدي المريض أو أريد أن أصبح شرطيا لأعطي الأوامر للآخرين، أو أريد أن أصبح لاعب كرة لأكون مشهورا مثل "ميسي"...هذه الإختيارات، رغم عدم استنادها على أسس موضوعية، ولكن تعد الخطوة الأولى في سيرورة الإختيار، وفي بناء المشروع الشخصي والحياتي للطفل. وعليه فهي تقتضي من المحيطين بالأطفال، تفهم هذه الاختيارات وعدم تبخيسها، بل مساعدتهم على التموقع في المستقبل من خلالها وذلك بتوسيع مخيلتهم حولها وبشروط وظروف ممارستها، وربط ممارستها بالتعلم الدراسي ومساعدتهم على تكوين صور إيجابية حول ذواتهم من خلالها، وعلى العيش بأمل تحقيقها.
بعد هذه المرحلة الإيهامية، يمر الطفل تدريجيا، في حدود سن الحادية عشرة، إلى الاختيارات الوسطية، من خلال سعيه البحث عن أسس يحاول أن ينبني عليها اختياراته، ويبدأ تدريجيا في الوعي بتعدد العوامل المرتبطة بالاختيار. تتميز هذه المرحلة بالتطور في الوعي بقدراته الذاتية وبالعوامل الخارجية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في الاختيار( مثل سلبيات وايجابيات المهنة، الراتب، ظروف ممارسة المهنة/موقعها في المجتمع...). ويتم هذا التطور عبر ثلاث أطوار: طور الميولات وطور القدرات وطور القيم.
ففي طور الميولات غالبا ما يتجه أطفال، في هذه المرحلة القبلية للمراهقة، نحو المهن الممارسة من طرف أوليائهم، وأن أغلبهم يفضلون اختيار المهنة من طرفهم (أحب أن أكون جنديا مثل أبي / أود أن أكون معلمة مثل أمي). وهو الأمر الذي يقتضي من المحيطين بالطفل، وخاصة الآباء والأمهات، في هذه المرحلة، توعية الأطفال بخصوصيات مهنهم وتعريفهم أن ممارسة هذه المهن تتطلب قدرات ومهارات وخصائص، على الفرد اكتسابها قبل ممارستها. أما طور القدرات، والذي يمتد من سن 13 إلى 14، والذي غالبا ما يصادف المرحلة الإعدادية، يستشعر الأطفال أن الاختيار ليس مرتبطا فقط بما نحب أوما نميل إليه فقط، بل لابد من استحضار القدرات في الاختيار. كما يستدخلون تدريجيا العوامل الواقعية في الاختيار وخاصة الدراسة. هذه المرحلة تقتضي من المحيطين بالأطفال، وخاصة المدرسين والأسر، على مساعدتهم على الوعي بقدراتهم الذاتية من خلال تعزيز هذه القدرات والعمل على تطويرها رغم بساطتها، وتفادي تبخيسها من خلال تقديرات سلبية من قبيل ضعيف ودون المستوى،...لأنها تساهم في تكوين صور سلبية للمتعلمين حول ذواتهم يكون لها تأثير كبير على اختياراتهم المدرسية والتكوينية والمهنية.
أما خلال الفترة الممتدة من 15 إلى 16 سنة، والمصادفة لمرحلة القيم، يسيطر على المراهق فكرة ايجاد موقع له في المجتمع، ويستحضر تدريجيا أن اختياراته المهنية تتدخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وعليه فمساعدة المحيطين بالمتعلمين في هذه المرحلة، عليها التمركز، من جهة حول اختبار ميولاتهم في الواقع المعاش من خلال أنشطة مدرسية وأنشطة خارج المدرسة، تمكنهم، من جهة، من تحديد ملامح المجال المهني الذي يمكنهم الاشتغال فيه، ومن جهة أخرى، بناء قيم صلبة لديهم من قبيل:أهمية العمل ومساعدة الآخرين والإخلاص في العمل،... لأنهم ينظرون للمستقبل، في هذه المرحلة، ليس في ممارسة المهنة في حد ذاتها بل في أسلوب حياة بالنسبة إليهم. وهنا يأتي الدور التوجيهي لوسائل الإعلام من خلال المساهمة في بناء قيم صلبة لدى المتلقي تنسجم تمام الانسجام مع القيم التي يتلقاها في الأسرة والمدرسة، من خلال برامج تلفزية وإذاعية و مقالات صحفية... تقرب المتعلم من واقع الممارسات المهنية وشروطها والقيم المطلوبة لتحقيق نمو المجتمع وإزدهاره.
وبخصوص طور الانتقال، والذي يصادف نهاية الدراسة الثانوية، يعد فترة حاسمة في سيرورة النضج المهني لدى المتعلمين، من خلال وعيهم التام أن الاختيار هو نتاج لتفاعل العديد من العوامل الداخلية والخارجية، وكذا من خلال رغبتهم الجامحة في طلب مساعدة الآخرين حتى يتمكنون من خلق جسور للتوافق بين مقوماتهم الذاتية والواقع الذي يعيشون فيه.
بعد هاتين المرحلتين، الإيهامية والوسطية، تأتي مرحلة الاختيارات الواقعية réalistes les choix ، وغالبا ما تبدأ ما بين سن 18 و21 أو إلى حدود الدخول في ممارسة مهنة معينة والالتزام بشغلها. فإذا كانت المراحل السابقة، ساهمت في جعل الطفل والمراهق واعيا بأن الاختيار مرتبط بعوامل داخلية وخارجية. وبعد خلق الحاجة لديه للبحث عن مد جسور التوافق والانسجام بين قدراته الذاتية والواقع المعاش؛ تتميز هذه المرحلة بأنها المرحلة التي تتبلور فيها الميولات والقيم ويصل فيها الفرد إلى النضج المهني. هذا النضج الذي يجعله واعيا تمام الوعي بالعناصر الموضوعية التي تتحكم في الإختيار أكثر فأكثر ويتمكن من اتخاذ قرارت موسومة بالواقعية والموضوعية.
وحري بالذكر، أن الحديث عن الاختيار المهني يحيل على كل الاختيارات المهنية كيفما كان نوعها ومستواها. وأن الهدف الأسمى من هذا التكافل المجتمعي في السيرورة الاختيارية والتوجيهية للأفراد، يكمن في مساعدتهم على الإنخراط الإيجابي والفعال مند سنواتهم الأولى في مشروع حياتي يتدرج بين المشروع المدرسي والمشروع التكويني والمشروع المهني. لان الاختيار ليس اختيار مهنة فحسب بل اختيار أسلوب حياة...

هوامش
بديع محمد القاسم، " علم النفس بين النظرية والتطبيق، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2001.
Charles Bujold, « Choix professionnel et développement de carrière », Gaëtan Morin éditeur, Canada, 1989.
Dennis Pelletier et Raymonde Bujold, "Pour une approche éducative en orientation", Gaetan Morin Éditeur, Canada, 1984.
 
عودة
أعلى