حوار تحليلي شامل حول البكالوريا المهنية،
مع ذ. عبد العزيـز سنـــهــجـــــي
أخصائي في مجال المساعدة على التوجيه المدرسي والمهني.
****************************************************
********************************************************
أستاذ عبد العزيز سنهجي في بداية هذا الحوار كيف تنظرون ، لسياق إحداث البكالوريا المهنية، وما هي رهاناتها وأهميتها لنظام التربية والتكوين المغربي ؟
بداية، لابد من التذكير، أن المغرب انخرط في السنوات الأخيرة في مجموعة من الأوراش السوسيواقتصادية الواعدة ذات الأولوية، كبرنامج إقلاع للنهوض بالصناعة المغربية،ومخطط المغرب الأزرق لتطوير السياحة، ومخطط المغرب الأخضر لتطوير الفلاحة، وبرنامج تطوير وإنتاج الطاقات المتجددة، واستراتيجيات المغرب الرقمي لتطوير مجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي، بالإضافة لباقي مخططات القطاعات الحكومية .. وفي ظل بروز حركية سوسيومهنية مستمرة مؤدية إلى ظهور مهن جديدة واندثار أخرى بسرعة، قد يعجز أي نظام تربوي وتكويني عن مسايرتها في كثير من الأحيان. وأمام التحولات والتغيرات الرهيبة على مجموعة من الأصعدة سواء المعرفية أو التكنولوجية أو الرقمية أو الخدماتية... أصبح المغرب مطالبا، أكثر من أي وقت مضى، إن هو أراد أن يكسب رهانات التنمية ويرفع التحديات الاقتصادية التي ستواجهه مستقبلا، أن يعمل على إعداد وتأهيل الرأسمال البشري لإقداره على الانخراط في مسارات التنمية السوسيواقتصادية. وفي هذا الإطار ، شكل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، منعطفا حاسما في وضع لبنات الإطار المرجعي العام القاضي بإحداث التلاؤم بين نظام التربية والتكوين والمحيط الاقتصادي، وذلك بالدعوة الصريحة لإرساء "شبكات للتربية والتكوين"، تعمل كلما أمكنها ذلك، على تكليف مؤسسات التعليم العام بالجوانب النظرية والأكاديمية، وإحالة الأشغال التطبيقية والدروس المهنية والتكنولوجية على مؤسسات التعليم التقني والمهني، وإنجاز التداريب المهنية بمختلف المقاولات والوحدات الإنتاجية التابعة لها. وذلك ضمن رؤية للعمل المشترك تقوم على توزيع المسؤوليات وتحديد الالتزامات وممارستها المنسقة بين بنيات التعليم العام وبنيات التعليم التقني والتكوين المهني، بغية الاستغلال الأمثل للتجهيزات والموارد والمرافق والمشاغل... المتوفرة. و لقد أجمعت مختلف التقارير والدراسات المنجزة سواء من طرف الوزارة الوصية أو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على التأخر الحاصل في إرساء هذه الشبكات وتنزيلها على أرض الواقع ، وكان علينا الانتظار إلى غاية الدخول التربوي 2014 - 2015 ليتم الإعلان عن بداية إرساء بعض مسالك التعليم المهني، في إطار تنزيل مقتضيات البكالوريا المهنية، والتي همت في البداية كلا من القطاع الصناعي والقطاع الفلاحي في محور الدار البيضاء... طنجة تطون، ليتم توسيع ذلك تدريجيا في غضون الموسم الدراسي الجاري ليصل لحدود 19 مسلكا مهنيا موزعة على 12 مسلكا في القطب الصناعي و 6 مسالك في القطب الخدماتي ومسلك واحد في القطب الفلاحي وفق خريطة مهنية استشرافية همت مجموعة من جهات وأقاليم المملكة، تم تحديدها من خلال منهجية علمية تشخيصية، بحيث لأول مرة يتم استحداث مسالك انطلاقا من حاجيات سوق الشغل وانتظارات الأوراش الكبرى التي ينخرط فيها المغرب، وذلك بمشاركة والتزام تام بين مختلف الشركاء والمتدخلين من وزارة وصية ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل وقطاعات مكونة ومهنيين .
وللتذكير، فإن هذا التوجه التمهيني قديم في نظامنا التربوي، حيث إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي كانت مؤسساتنا التعليمة تؤهل التلاميذ لممارسة بعض المهن والانخراط في بعض الحرف البسيطة، وخير دليل على ذلك، هو الشكل الهندسي لبعض المؤسسات التعليمية الذي لازال شاهدا على هذه الحقبة ، ولقد شكلت البكالوريا المهنية في صيغتها الحالية مطلبا ملحا لمختلف الفاعلين التربويين، وعلى رأسهم أطر التوجيه التربوي، حيث كانوا غالبا ما يجدوا أنفسهم حائرين أمام ميولات بعض التلاميذ في إطار مجالس التوجيه، وخاصة أولئك الذين لا يتوفرون لا على الجانبية العلمية ولا على الجانبية الأدبية ويتمتعون بذكاء عملي وقدرات يدوية وقابلية للتعامل مع الأشياء والأجهزة، مما كان يحرمهم من فرص استكمال الدراسة في مسارات تحقق لهم المتعة وتمنحهم الحافزية الضرورية لاستكمال مشواراهم الدراسي بالتعليم الجامعي، أو إتاحة لهم فرص الاندماج الاقتصادي..إن استحداث هذا المسار المهني في منظومة التربية والتكوين هي التفاتة لشريحة مهمة ليس بمقدرتها التفكير الأكاديمي المجرد الذي تتطلبه مسارات التعليم العادي.
ما هي الأسئلة أو التخوفات الميدانية التي تصاحب إرساء البكالوريا المهنية؟
إن أكبر سؤال مطروح يتعلق أصلا بهذه النزوعات التمهينية التي تمتح من المنظورات الاقتصادوية للتعليم، والتي ترفع شعار موائمة التعليم لسوق الشغل، وكأن المدرسة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل عوض الإعداد للحياة عبر إيجاد حلول ناجعة لتحديات إكساب التلميذ مناهج تحصيل المعرفة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير جاهزيته للشغل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، من أجل مجابهة مصاعب الحياة في ظل متطلبات العولمة... وبغض النظر، عن هذا النقاش الذي ظل مطروحا في سياق مجتمعنا المغربي، ولم نحسم فيه لحدود اليوم . فالأمر يتعلق أساسا، في اعتقادي، بالتسرع في تنزيل مشروع تربوي طموح وحيوي لبلادنا، بإجراءات استثنائية لهذا الموسم الدراسي، في غياب الإعداد القبلي، والضمانات والشروط الكافية للنجاح، وبتصورات تربوية غير مكتملة وبهندسة بيداغوجية لا تضمن تكافؤ الفرص في إمكانات التوجيه وإعادة التوجيه وبمساطر إدارية غير منسجمة وغير مندمجة كفاية ضمن آليات اشتغال المؤسسة الموضوعة لهذا الغرض والمنصوص عليها في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، وبوصلات إشهارية ودعائم إعلامية غير دقيقة وتروج لمعلومات غير مؤكدة وبرؤية أحادية يعوزها الإشراك والانفتاح على فاعلين متحكمين في معادلة إنجاح أو إخفاق قرارات من هذا القبيل... نحن واعون أنها البداية، وكل مشروع في المجال التربوي، تبقى له سيرورة تعتمل داخلها نقط قوة ونقط ضعف، بالإضافة للفرص التي يمكن أن يتيحها والتهديدات والتخوفات التي يمكن أن تواجهه. وبالتالي، فإن مشروع من هذا القبيل سيظل منفتحا على التحسين والتطوير المتواصل، لكن الخوف كل الخوف أن يتم إفراغ هذه التجربة من عمقها التربوي والبيداغوجي والاقتصادي...، وأن يشكل ذلك أزمة انطلاقة يمكن أن ترهن مسار ومآل هذا المشروع ... ، لذلك قدر رجال الميدان أن يدافعوا عن جوهر وعمق هذا المشروع، ويمكنوا الفئات المستهدفة به من حقهم في الإعلام والتوصل، ويبحثوا عن صيغ التنزيل السلس التي تضمن للتلميذ مصلحته، وأن يعملوا تدريجيا على إعطاء المضمون والمعنى والهوية لهذا المشروع..... وبإحداث هذه المسالك المهنية، سيسلم النظام التربوي المغربي، في المستقبل القريب، ما يقارب 51 نوعا من أنواع البكالوريا، والعدد مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة، كل هذا، كان سيكون مفيدا أكثر، لو تم تقييم الهيكلة البيداغوجية بالتعليم الثانوي وضبط المفاهيم المتعلقة بالجسور والجذوع والأقطاب والشعب والمسالك ... وتوحيد مساطر التوجيه وتحين النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، ويمكن تلخيص أهم الأسئلة أو التخوفات، من زاوية نظر مختلف الفاعلين، والتي وقفنا عليها ميدانيا فيما يلي:
فبالنسبة للآباء والتلاميذ، يعتبرون غياب الإيواء والإطعام والنقل في جل المؤسسات الثانوية التأهيلية المستقبلة لتلاميذ المسالك المهنية، وغموض الآفاق المهنية والجامعية، وتشتت خريطة المؤسسات والمراكز المستقبلة والمحتضنة لمسالك البكالوريا المهنية يساهم إلى حد بعيد في الحد من الطلب على مسالك البكالوريا المهنية، بالرغم من وفرة العروض وتنوعها، والتي تم الإعلان عليها وفق خريطة مهنية. أما أطر التوجيه فيرون وجود إشكال بخصوص الفلسفة التي بنيت عليها المسارات المهنية وآفاقها ، والتي كان من المفروض أن تستوعب عدد من التلاميذ الذين يعيشون تعثرا على مستوى التحصيل الأكاديمي النظري، حيث يفتح لهم المجال لإبراز مهاراتهم وقدراتهم التي تعجز المدرسة العمومية بشكلها الحالي على الاعتراف بها وتفجيرها ورعايتها ... فإذا بالبكالوريا المهنية تشترط لولوجها مواد مؤهلة مثل الرياضيات والفيزياء والفرنسية ومواد أخرى، وتدريس المواد العلمية والمهنية بالفرنسية، فأعدنا إنتاج تخصصات تكنولوجية (مستوى التقني) تدرس في مراكز التكوين المهني بدل الثانويات التأهيلية، وستبقى فئة عريضة من التلاميذ تنتظر مسارا يستوعب قدراتها الخاصة. وفي نهاية المطاف سيبقى مشكل الهدر المدرسي مطروحا. أما القضايا التقنية المتعلقة بالتواصل والتدابير والمساطر والانسجام بين الجذوع والمسالك المتفرعة عنها وغيرها، فالارتباك الذي تعرفه ناتج عن اختيار التوقيت، وبكون التجربة في بدايتها، وأن الإعداد التقني للمشروع كان ناقصا، وغابت عنه المقاربة النسقية الاستراتجية، وتم تغييب لذوي الاختصاص؛ مما نتج عنه تضارب في مساطر التوجيه وعدم انسجامها (حرمان بعض المسالك العادية من التوجيه وإعادة التوجيه للمسالك المهنية) ، بالإضافة إلى غموض الهندسة البيداغوجية (مواد لا تدرس في الجذع المشترك وتدرس في السنة الأولى، غياب المعاملات، جذوع غير منسجمة مع المسالك المتفرعة عنها، فما علاقة تصميم الأزياء مع الجذع الخدماتي مثلا؟)، بالإضافة لإشكالية تكافؤ الفرص في عمليتي التوجيه وإعادة التوجيه (فتح الترشيح أمام تلاميذ جميع الجذوع العادية بالرغم من أن هناك جذوع لا تدرس فيها بعض المواد المؤهلة للجذوع المهنية، وتتطلب نوعا محددا من الكفايات والمؤهلات لمسايرة متطلبات الجذوع والمسالك، وعليه نتساءل كيف يمكن لتلميذ لا يتوفر على جانبية علمية أن ينجح في مسلك الصيانة المعلوماتية والشبكات ؟) ...أما مديرو الثانويات التأهيلية المستقبلة لهذه المسالك فيركزون على إشكالية تعديل الخريطة التربوية في الدخول المدرسي بعدما تم إقرارها سابقا، وإيجاد الموارد البشرية التي يمكن أن تدرس المواد العلمية بالفرنسية، بالإضافة لإشكالية تدبير الحياة المدرسية للتلاميذ المسجلين بهذه الجذوع والمسالك المهنية المتعلقة أساسا ب: تدبير استعمالات الزمن، تدبير العطل المدرسية، أسلوب التقويم الموزع بين مؤسستين مهنية ومدرسية، تدبير الوثائق المدرسية، تدبير برنام مسار،بالإضافة لاتخاذ قرارات التوجيه وإعادة التوجيه داخل لجنة جهوية، ومن خارج الآليات المؤسساتية الموضوعة لهذا الغرض ضمن مقتضيات النظام الأساسي الخاص بمؤسسات التربية والتعليم العمومي؛ أما مديرو مؤسسات التكوين المهني فيجدون أنفسهم أمام إشكالية التأكد من الجانبيات المهنية للتلاميذ الراغبين في هذه المسالك في غياب اعتماد حصيلة المقابلة الفردية أو الروائز البسيكوتقنية أو اختبارات مخصصة لهذه الغاية خاصة في بداية تنزيل المشروع ، مما سيلصق بالمشروع بعض التمثلات الخاطئة والتصورات النمطية السلبية التي يصعب التخلص منها كما كان الشأن بالنسبة للتكوين المهني والذي اعتبر ولفترة طويلة ملجأ للتلاميذ الفاشلين والمتعثرين، وظلت هذه التصورات تلاحقه وتحد من نجاعته والإقبال عليه .
في نظركم، ما هي الصيغ والاقتراحات الممكنة، لجعل مشروع البكالوريا المهنية يحقق أهدافه النوعية والكمية؟
إن التعاطي الشامل مع مشروع البكالوريا المهنية ، والتدبير المندمج لمختلف المسارات والممرات المزمع إحداثها بداخل منظومة التربية والتكوين، توخيا لإحداث الترابط بين هياكل المنظومة ومستوياتها وأنماطها في نسق متماسك ودائم التفاعل والتلاؤم مع المحيط الاجتماعي العام، يقتضي تفويت صلاحيات تنزيل هذا المشروع للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والعمل على تقييم وتحيين الهيكلة البيداغوجية المعمول بها حاليا في التعليم الثانوي التأهيلي، وضبط المسارات وتدقيق آفاقها وتحديد المفاهيم المتعلقة بالتعليم التكنولوجي والتعليم المهني والتكوين المهني، والتعامل مع أنماط التعليم هذه على قدم وساق بعيدا عن التفاضلية أو التراتبية، رفعا لكل لبس أو سوء فهم يمكن أن يتبادر لذهن الفاعلين التربويين والاجتماعيين والمهنيين... وتتطلب في الآن ذاته، العمل على إحداث التعبئة المجتمعية حول هذا المشروع، والتداول في مختلف الاختيارات والمصادقة على مختلف القرارات من داخل الآليات المؤسساتية المحددة في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي عوض الاشتغال من خارجها، والعمل على توحيد وتبسيط مساطر التوجيه وإعادة التوجيه، وإخضاع كل المذكرات والمقررات ذات العلاقة بالموضوع لمراجعة شاملة تحقيقا لانسجام وتكامل المساطر ورفعا لكل تناقض أو تضارب في التدابير والإجراءات والمواقيت والمتدخلين... علما أن فتح مسارات جديدة في التعليم الثانوي التأهيلي لن يكون مجديا وناجعا، ضمن أعراف وفلسفة التوجيه التربوي في غياب إعادة هيكلة منظومة التعليم سواء في مراحلها الابتدائية أو الإعدادية التي تفضي لهذه الخيارات أو تلك المتعلقة بالآفاق الجامعية والمهنية التي تضمنها هذه المسارات؛ حيث يجب أن تظل مسألة فتح الاختيارات أمام المتعلمين تخضع لمقاربة تصاعدية نمائية، تأتي كتتويج لعمل ميداني ومجهود بيداغوجي وتربوي ونفسي مواكب وداعم للتلميذ في مساره الدراسي. مع الحرص على توفير ضمانات وشروط النجاح، بكل ما يلزم من تنسيق وتعاون بين الثانوية التأهيلية ومؤسسات التكوين المهني، وكل ما يتطلبه الأمر من توفير لترسانة قانونية لتأطير التداريب الميدانية داخل المقاولات ووحدات الإنتاج التابعة لها، وتوفير مراكز الإيواء والموارد البشرية المؤهلة للتدريس المواد العلمية بالفرنسية ، والإسراع في إخراج الأدوات والآليات الكفيلة بإنجاح عمليات التجسير والممرات بين التربية والتكوين والحياة العملية (الإطار الوطني للإشهاد، حصيلة الكفايات المهنية، حصيلة المكتسبات التعليمية، آلية المصادقة على الكفايات التعليمة والمهنية، آلية المصادقة على المكتسبات والتجارب الميدانية، جداول المطابقة، معادلة الشواهد والدبلومات المهنية، نشر وتعميم مضامين الاتفاقيات المبرمة في إطار المسالك المهنية، بناء روائز ملائمة...) وتعزيز مساعي التشارك والتعاون بين مختلف المتدخلين في التوجيه التربوي لمساعدة التلميذ على تدبير مساراته الدراسية والمهنية والحياتية بكل ما يقتضيه الأمر من تبصر وحكمة ضمن رؤية للتوجيه تمتد مدى الحياة.
أجرى الحوار : الحسن بنعيادة ، لفائدة جريدة المساء، عدد 2793 ، الثلاثاء 29 شتنبر 2015
مع ذ. عبد العزيـز سنـــهــجـــــي
أخصائي في مجال المساعدة على التوجيه المدرسي والمهني.
****************************************************
أستاذ عبد العزيز سنهجي في بداية هذا الحوار كيف تنظرون ، لسياق إحداث البكالوريا المهنية، وما هي رهاناتها وأهميتها لنظام التربية والتكوين المغربي ؟
بداية، لابد من التذكير، أن المغرب انخرط في السنوات الأخيرة في مجموعة من الأوراش السوسيواقتصادية الواعدة ذات الأولوية، كبرنامج إقلاع للنهوض بالصناعة المغربية،ومخطط المغرب الأزرق لتطوير السياحة، ومخطط المغرب الأخضر لتطوير الفلاحة، وبرنامج تطوير وإنتاج الطاقات المتجددة، واستراتيجيات المغرب الرقمي لتطوير مجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي، بالإضافة لباقي مخططات القطاعات الحكومية .. وفي ظل بروز حركية سوسيومهنية مستمرة مؤدية إلى ظهور مهن جديدة واندثار أخرى بسرعة، قد يعجز أي نظام تربوي وتكويني عن مسايرتها في كثير من الأحيان. وأمام التحولات والتغيرات الرهيبة على مجموعة من الأصعدة سواء المعرفية أو التكنولوجية أو الرقمية أو الخدماتية... أصبح المغرب مطالبا، أكثر من أي وقت مضى، إن هو أراد أن يكسب رهانات التنمية ويرفع التحديات الاقتصادية التي ستواجهه مستقبلا، أن يعمل على إعداد وتأهيل الرأسمال البشري لإقداره على الانخراط في مسارات التنمية السوسيواقتصادية. وفي هذا الإطار ، شكل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، منعطفا حاسما في وضع لبنات الإطار المرجعي العام القاضي بإحداث التلاؤم بين نظام التربية والتكوين والمحيط الاقتصادي، وذلك بالدعوة الصريحة لإرساء "شبكات للتربية والتكوين"، تعمل كلما أمكنها ذلك، على تكليف مؤسسات التعليم العام بالجوانب النظرية والأكاديمية، وإحالة الأشغال التطبيقية والدروس المهنية والتكنولوجية على مؤسسات التعليم التقني والمهني، وإنجاز التداريب المهنية بمختلف المقاولات والوحدات الإنتاجية التابعة لها. وذلك ضمن رؤية للعمل المشترك تقوم على توزيع المسؤوليات وتحديد الالتزامات وممارستها المنسقة بين بنيات التعليم العام وبنيات التعليم التقني والتكوين المهني، بغية الاستغلال الأمثل للتجهيزات والموارد والمرافق والمشاغل... المتوفرة. و لقد أجمعت مختلف التقارير والدراسات المنجزة سواء من طرف الوزارة الوصية أو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على التأخر الحاصل في إرساء هذه الشبكات وتنزيلها على أرض الواقع ، وكان علينا الانتظار إلى غاية الدخول التربوي 2014 - 2015 ليتم الإعلان عن بداية إرساء بعض مسالك التعليم المهني، في إطار تنزيل مقتضيات البكالوريا المهنية، والتي همت في البداية كلا من القطاع الصناعي والقطاع الفلاحي في محور الدار البيضاء... طنجة تطون، ليتم توسيع ذلك تدريجيا في غضون الموسم الدراسي الجاري ليصل لحدود 19 مسلكا مهنيا موزعة على 12 مسلكا في القطب الصناعي و 6 مسالك في القطب الخدماتي ومسلك واحد في القطب الفلاحي وفق خريطة مهنية استشرافية همت مجموعة من جهات وأقاليم المملكة، تم تحديدها من خلال منهجية علمية تشخيصية، بحيث لأول مرة يتم استحداث مسالك انطلاقا من حاجيات سوق الشغل وانتظارات الأوراش الكبرى التي ينخرط فيها المغرب، وذلك بمشاركة والتزام تام بين مختلف الشركاء والمتدخلين من وزارة وصية ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل وقطاعات مكونة ومهنيين .
وللتذكير، فإن هذا التوجه التمهيني قديم في نظامنا التربوي، حيث إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي كانت مؤسساتنا التعليمة تؤهل التلاميذ لممارسة بعض المهن والانخراط في بعض الحرف البسيطة، وخير دليل على ذلك، هو الشكل الهندسي لبعض المؤسسات التعليمية الذي لازال شاهدا على هذه الحقبة ، ولقد شكلت البكالوريا المهنية في صيغتها الحالية مطلبا ملحا لمختلف الفاعلين التربويين، وعلى رأسهم أطر التوجيه التربوي، حيث كانوا غالبا ما يجدوا أنفسهم حائرين أمام ميولات بعض التلاميذ في إطار مجالس التوجيه، وخاصة أولئك الذين لا يتوفرون لا على الجانبية العلمية ولا على الجانبية الأدبية ويتمتعون بذكاء عملي وقدرات يدوية وقابلية للتعامل مع الأشياء والأجهزة، مما كان يحرمهم من فرص استكمال الدراسة في مسارات تحقق لهم المتعة وتمنحهم الحافزية الضرورية لاستكمال مشواراهم الدراسي بالتعليم الجامعي، أو إتاحة لهم فرص الاندماج الاقتصادي..إن استحداث هذا المسار المهني في منظومة التربية والتكوين هي التفاتة لشريحة مهمة ليس بمقدرتها التفكير الأكاديمي المجرد الذي تتطلبه مسارات التعليم العادي.
ما هي الأسئلة أو التخوفات الميدانية التي تصاحب إرساء البكالوريا المهنية؟
إن أكبر سؤال مطروح يتعلق أصلا بهذه النزوعات التمهينية التي تمتح من المنظورات الاقتصادوية للتعليم، والتي ترفع شعار موائمة التعليم لسوق الشغل، وكأن المدرسة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل عوض الإعداد للحياة عبر إيجاد حلول ناجعة لتحديات إكساب التلميذ مناهج تحصيل المعرفة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير جاهزيته للشغل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، من أجل مجابهة مصاعب الحياة في ظل متطلبات العولمة... وبغض النظر، عن هذا النقاش الذي ظل مطروحا في سياق مجتمعنا المغربي، ولم نحسم فيه لحدود اليوم . فالأمر يتعلق أساسا، في اعتقادي، بالتسرع في تنزيل مشروع تربوي طموح وحيوي لبلادنا، بإجراءات استثنائية لهذا الموسم الدراسي، في غياب الإعداد القبلي، والضمانات والشروط الكافية للنجاح، وبتصورات تربوية غير مكتملة وبهندسة بيداغوجية لا تضمن تكافؤ الفرص في إمكانات التوجيه وإعادة التوجيه وبمساطر إدارية غير منسجمة وغير مندمجة كفاية ضمن آليات اشتغال المؤسسة الموضوعة لهذا الغرض والمنصوص عليها في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، وبوصلات إشهارية ودعائم إعلامية غير دقيقة وتروج لمعلومات غير مؤكدة وبرؤية أحادية يعوزها الإشراك والانفتاح على فاعلين متحكمين في معادلة إنجاح أو إخفاق قرارات من هذا القبيل... نحن واعون أنها البداية، وكل مشروع في المجال التربوي، تبقى له سيرورة تعتمل داخلها نقط قوة ونقط ضعف، بالإضافة للفرص التي يمكن أن يتيحها والتهديدات والتخوفات التي يمكن أن تواجهه. وبالتالي، فإن مشروع من هذا القبيل سيظل منفتحا على التحسين والتطوير المتواصل، لكن الخوف كل الخوف أن يتم إفراغ هذه التجربة من عمقها التربوي والبيداغوجي والاقتصادي...، وأن يشكل ذلك أزمة انطلاقة يمكن أن ترهن مسار ومآل هذا المشروع ... ، لذلك قدر رجال الميدان أن يدافعوا عن جوهر وعمق هذا المشروع، ويمكنوا الفئات المستهدفة به من حقهم في الإعلام والتوصل، ويبحثوا عن صيغ التنزيل السلس التي تضمن للتلميذ مصلحته، وأن يعملوا تدريجيا على إعطاء المضمون والمعنى والهوية لهذا المشروع..... وبإحداث هذه المسالك المهنية، سيسلم النظام التربوي المغربي، في المستقبل القريب، ما يقارب 51 نوعا من أنواع البكالوريا، والعدد مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة، كل هذا، كان سيكون مفيدا أكثر، لو تم تقييم الهيكلة البيداغوجية بالتعليم الثانوي وضبط المفاهيم المتعلقة بالجسور والجذوع والأقطاب والشعب والمسالك ... وتوحيد مساطر التوجيه وتحين النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، ويمكن تلخيص أهم الأسئلة أو التخوفات، من زاوية نظر مختلف الفاعلين، والتي وقفنا عليها ميدانيا فيما يلي:
فبالنسبة للآباء والتلاميذ، يعتبرون غياب الإيواء والإطعام والنقل في جل المؤسسات الثانوية التأهيلية المستقبلة لتلاميذ المسالك المهنية، وغموض الآفاق المهنية والجامعية، وتشتت خريطة المؤسسات والمراكز المستقبلة والمحتضنة لمسالك البكالوريا المهنية يساهم إلى حد بعيد في الحد من الطلب على مسالك البكالوريا المهنية، بالرغم من وفرة العروض وتنوعها، والتي تم الإعلان عليها وفق خريطة مهنية. أما أطر التوجيه فيرون وجود إشكال بخصوص الفلسفة التي بنيت عليها المسارات المهنية وآفاقها ، والتي كان من المفروض أن تستوعب عدد من التلاميذ الذين يعيشون تعثرا على مستوى التحصيل الأكاديمي النظري، حيث يفتح لهم المجال لإبراز مهاراتهم وقدراتهم التي تعجز المدرسة العمومية بشكلها الحالي على الاعتراف بها وتفجيرها ورعايتها ... فإذا بالبكالوريا المهنية تشترط لولوجها مواد مؤهلة مثل الرياضيات والفيزياء والفرنسية ومواد أخرى، وتدريس المواد العلمية والمهنية بالفرنسية، فأعدنا إنتاج تخصصات تكنولوجية (مستوى التقني) تدرس في مراكز التكوين المهني بدل الثانويات التأهيلية، وستبقى فئة عريضة من التلاميذ تنتظر مسارا يستوعب قدراتها الخاصة. وفي نهاية المطاف سيبقى مشكل الهدر المدرسي مطروحا. أما القضايا التقنية المتعلقة بالتواصل والتدابير والمساطر والانسجام بين الجذوع والمسالك المتفرعة عنها وغيرها، فالارتباك الذي تعرفه ناتج عن اختيار التوقيت، وبكون التجربة في بدايتها، وأن الإعداد التقني للمشروع كان ناقصا، وغابت عنه المقاربة النسقية الاستراتجية، وتم تغييب لذوي الاختصاص؛ مما نتج عنه تضارب في مساطر التوجيه وعدم انسجامها (حرمان بعض المسالك العادية من التوجيه وإعادة التوجيه للمسالك المهنية) ، بالإضافة إلى غموض الهندسة البيداغوجية (مواد لا تدرس في الجذع المشترك وتدرس في السنة الأولى، غياب المعاملات، جذوع غير منسجمة مع المسالك المتفرعة عنها، فما علاقة تصميم الأزياء مع الجذع الخدماتي مثلا؟)، بالإضافة لإشكالية تكافؤ الفرص في عمليتي التوجيه وإعادة التوجيه (فتح الترشيح أمام تلاميذ جميع الجذوع العادية بالرغم من أن هناك جذوع لا تدرس فيها بعض المواد المؤهلة للجذوع المهنية، وتتطلب نوعا محددا من الكفايات والمؤهلات لمسايرة متطلبات الجذوع والمسالك، وعليه نتساءل كيف يمكن لتلميذ لا يتوفر على جانبية علمية أن ينجح في مسلك الصيانة المعلوماتية والشبكات ؟) ...أما مديرو الثانويات التأهيلية المستقبلة لهذه المسالك فيركزون على إشكالية تعديل الخريطة التربوية في الدخول المدرسي بعدما تم إقرارها سابقا، وإيجاد الموارد البشرية التي يمكن أن تدرس المواد العلمية بالفرنسية، بالإضافة لإشكالية تدبير الحياة المدرسية للتلاميذ المسجلين بهذه الجذوع والمسالك المهنية المتعلقة أساسا ب: تدبير استعمالات الزمن، تدبير العطل المدرسية، أسلوب التقويم الموزع بين مؤسستين مهنية ومدرسية، تدبير الوثائق المدرسية، تدبير برنام مسار،بالإضافة لاتخاذ قرارات التوجيه وإعادة التوجيه داخل لجنة جهوية، ومن خارج الآليات المؤسساتية الموضوعة لهذا الغرض ضمن مقتضيات النظام الأساسي الخاص بمؤسسات التربية والتعليم العمومي؛ أما مديرو مؤسسات التكوين المهني فيجدون أنفسهم أمام إشكالية التأكد من الجانبيات المهنية للتلاميذ الراغبين في هذه المسالك في غياب اعتماد حصيلة المقابلة الفردية أو الروائز البسيكوتقنية أو اختبارات مخصصة لهذه الغاية خاصة في بداية تنزيل المشروع ، مما سيلصق بالمشروع بعض التمثلات الخاطئة والتصورات النمطية السلبية التي يصعب التخلص منها كما كان الشأن بالنسبة للتكوين المهني والذي اعتبر ولفترة طويلة ملجأ للتلاميذ الفاشلين والمتعثرين، وظلت هذه التصورات تلاحقه وتحد من نجاعته والإقبال عليه .
في نظركم، ما هي الصيغ والاقتراحات الممكنة، لجعل مشروع البكالوريا المهنية يحقق أهدافه النوعية والكمية؟
إن التعاطي الشامل مع مشروع البكالوريا المهنية ، والتدبير المندمج لمختلف المسارات والممرات المزمع إحداثها بداخل منظومة التربية والتكوين، توخيا لإحداث الترابط بين هياكل المنظومة ومستوياتها وأنماطها في نسق متماسك ودائم التفاعل والتلاؤم مع المحيط الاجتماعي العام، يقتضي تفويت صلاحيات تنزيل هذا المشروع للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والعمل على تقييم وتحيين الهيكلة البيداغوجية المعمول بها حاليا في التعليم الثانوي التأهيلي، وضبط المسارات وتدقيق آفاقها وتحديد المفاهيم المتعلقة بالتعليم التكنولوجي والتعليم المهني والتكوين المهني، والتعامل مع أنماط التعليم هذه على قدم وساق بعيدا عن التفاضلية أو التراتبية، رفعا لكل لبس أو سوء فهم يمكن أن يتبادر لذهن الفاعلين التربويين والاجتماعيين والمهنيين... وتتطلب في الآن ذاته، العمل على إحداث التعبئة المجتمعية حول هذا المشروع، والتداول في مختلف الاختيارات والمصادقة على مختلف القرارات من داخل الآليات المؤسساتية المحددة في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي عوض الاشتغال من خارجها، والعمل على توحيد وتبسيط مساطر التوجيه وإعادة التوجيه، وإخضاع كل المذكرات والمقررات ذات العلاقة بالموضوع لمراجعة شاملة تحقيقا لانسجام وتكامل المساطر ورفعا لكل تناقض أو تضارب في التدابير والإجراءات والمواقيت والمتدخلين... علما أن فتح مسارات جديدة في التعليم الثانوي التأهيلي لن يكون مجديا وناجعا، ضمن أعراف وفلسفة التوجيه التربوي في غياب إعادة هيكلة منظومة التعليم سواء في مراحلها الابتدائية أو الإعدادية التي تفضي لهذه الخيارات أو تلك المتعلقة بالآفاق الجامعية والمهنية التي تضمنها هذه المسارات؛ حيث يجب أن تظل مسألة فتح الاختيارات أمام المتعلمين تخضع لمقاربة تصاعدية نمائية، تأتي كتتويج لعمل ميداني ومجهود بيداغوجي وتربوي ونفسي مواكب وداعم للتلميذ في مساره الدراسي. مع الحرص على توفير ضمانات وشروط النجاح، بكل ما يلزم من تنسيق وتعاون بين الثانوية التأهيلية ومؤسسات التكوين المهني، وكل ما يتطلبه الأمر من توفير لترسانة قانونية لتأطير التداريب الميدانية داخل المقاولات ووحدات الإنتاج التابعة لها، وتوفير مراكز الإيواء والموارد البشرية المؤهلة للتدريس المواد العلمية بالفرنسية ، والإسراع في إخراج الأدوات والآليات الكفيلة بإنجاح عمليات التجسير والممرات بين التربية والتكوين والحياة العملية (الإطار الوطني للإشهاد، حصيلة الكفايات المهنية، حصيلة المكتسبات التعليمية، آلية المصادقة على الكفايات التعليمة والمهنية، آلية المصادقة على المكتسبات والتجارب الميدانية، جداول المطابقة، معادلة الشواهد والدبلومات المهنية، نشر وتعميم مضامين الاتفاقيات المبرمة في إطار المسالك المهنية، بناء روائز ملائمة...) وتعزيز مساعي التشارك والتعاون بين مختلف المتدخلين في التوجيه التربوي لمساعدة التلميذ على تدبير مساراته الدراسية والمهنية والحياتية بكل ما يقتضيه الأمر من تبصر وحكمة ضمن رؤية للتوجيه تمتد مدى الحياة.
أجرى الحوار : الحسن بنعيادة ، لفائدة جريدة المساء، عدد 2793 ، الثلاثاء 29 شتنبر 2015