سؤال ملاءمة نظام التربية والتكوين مع سوق الشغل
بقلم عبد العزيز سنهجي
باحت في سوسيولوجيا التوجيه المدرسي
تصدرت مسألة ملاءمة نظام التربية والتكوين لسوق الشغل، الخطاب الملكي الأخير بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، وستتصدر بدون شك القضايا المدرجة ضمن دائرة النقاش العمومي المؤطر لمدخلات ومخرجات الملتقى الوطني للتكوين والتشغيل. ومرد ذلك، في اعتقانا، لاستنفاذ جل أغراض النموذج التنموي المعتمد من طرف المغرب من جهة، ولانحباس في سيرورة إصلاح نظام التربية والتكوين والشغل من جهة أخرى، و ما أفرزه ذلك من هدر تربوي واجتماعي وهجرة وبطالة الخريجين وصعوبات في الاندماج السوسيومهني. إن التفكير في عناصر الجواب عن هذا السؤال،هو تفكير في العمق في إعادة هندسة النسق السوسيوتربوي والاقتصادي وفق معايير ومؤشرات الفعالية والنجاعة والكفاية، ضمن سياق يستحضر التطورات العالمية في مختلف أبعادها ومستوياتها ومستلزمات التنمية الشاملة والتأهيل المستدام للموارد البشرية، وينتبه للتحولات الحاصلة في أدوار ووظائف وآليات اشتغال المدرسة الجديدة، التي أصبحت مطالبة اليوم، أكثر من أي وفت مضى، من الانتقال من وظائف التلقين والشحن بالمعارف إلى وظائف أكثر تنوعا ودينامية، عبر الانخراط في محاولات إيجاد حلول ناجعة لتحديات إكساب المتعلم منهجية تحصيل المعرفة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير جاهزيته للشغل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، من أجل مجابهة مصاعب الحياة في ظل العولمة الكاسحة.
وعموما، يمكن تصنيف الآراء والأطروحات التي تناولت السؤال المؤطر لهذه الورقة بالدراسة والتحليل، إلى أربع أطروحات متمايزة :
تخزل الأطروحة الأولى الأزمة في نظام التربية والتكوين، باعتباره نظاما جامدا تقليديا منغلقا، لا يشجع المتعلم على الانخراط الفاعل في تحصيل المعارف وتملك الكفايات الأساسية وتطوير المهارات الحياتية، مما يجعل المتعلم في موقع المتلقي السلبي الفاقد للقدرة على التكيف، وعلى اتخاذ القرار بكل ما يلزم من استقلالية ومسؤولية ومرونة. أما معتنقو الأطروحة الثانية، فيوجهون اللوم للنظام السوسيومهني باعتباره نظاما هشا غير مهيكل في مجمله، لا يسمح بتوفير فرص كافية للشغل ولا يتطور بطريقة نمائية ولا يشتغل وفق ميكانيزمات عقلانية وإجراءات مرنة. في حين نجد أصحاب الأطروحة الثالثة يوجهون اللوم لكل من نظام التريبة والتكوين والسوق الشغل باعتبارهما غير قادرين على الاشتغال وفق سياسة منفتحة ومندمجة تحدد الأدوار وتضبط المسؤوليات وتدقق الالتزامات وفق شراكة تستند لمرجعيات موجهة للتنسيق والتعاون والتكامل. وإذا كانت الآراء السالفة فد اختزلت الأزمة في أحد الأطراف أو كلاهما معا، فإن أصحاب الأطروحة الرابعة يحذرون من مآلات ومنزلقات هذه النقاشات التي تتبادل اللوم والاتهام، ويعتبرون أن المشكل يكمن أساسا في هذا النوع من النزوعات التمهينية التي تمتح من المنظورات الاقتصادوية للتعليم، الرافعة لشعار "مواءمة التربية والتكوين للسوق الشغل" ،وكأن المدرسة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل عوض الإعداد للحياة عبر الاهتمام المتكامل بشخصية المتعلم في جميع مكوناتها وأبعادها...
إن انخراط خطاب الفاعلين التربويين والاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين في الترويج لهاته الأطروحة أو تلك، فوت على الجميع فرصة الإمساك بالمعالجة الشاملة والمتعددة الأبعاد لمسألة علاقة نظام التربية والتكوين بسوق الشغل، وأفقد هذا الخطاب طرحه النسقي الاستراتيجي المتماسك المستند على المرجعيات الفلسفية والتربوية والاجتماعية والضوابط الموجهة لكل تفكير في إشكالية علاقة التربية والتكوين بسوق الشغل، وأدخله أحيانا كثيرة في دائرة التبسيط والاختزال للقضايا الجوهرية والإشكاليات المعقدة التي ينبغي التركيز عليها.
إن التأسيس لمنظور إصلاحي متكامل لعلاقة منظومة التربية والتكوين بسوق الشغل، يجب أن يتم برؤية مغايرة ومقاربة مختلفة. ومن هنا تبرز، في اعتقادنا، أهمية اعتماد منطق "المقاربة الموجهة" في تأطير العلاقة بين نظام التربية والتكوين وسوق الشغل. إن التفكير في هذه العلاقة بمدخل التوجيه هو تفكير بمنظور تطوري وتنموي، يقطع مع الأطروحات الستاتيكية والاختزالية، وينخرط ضمن جيل البرديكمات الحديثة، التي ترى في" المدرسة الموجهة" أحد المداخل الاستراتيجية لتكريس الإنصاف والجودة والارتقاء والتعبئة، من خلال إعادة النظر في هندسة نسق التربية والتكوين والشغل. ولعل ما يميز هذا المفهوم، هو غنى مدلولاته الإبستيمولوجية من خلال ما يولده من أفكار وتصورات وأساليب وتدابير للتغيير المخطط في تجسير الهوة بين مكونات مثلث التربية والتكوين والشغل. ولا تكمن أهميته فقط في توجيه أدوار ووظائف مكونات المثلث بشكل متبصر ومنسجم مع منطق العصر المتسم بالتحولات المتسارعة في كل المجالات والأصعدة، وإنما أيضا في إعمال "الفكر الموجه" لهندسة إصلاح يستشرف مستقبلا أصبح التغيير قاعدته والاستقرار استثناؤه...إن التفكير بهذا المدخل في سؤال المواءمة، هو إلتزام صريح باعتماد بوصلة الوظيفة التوجيهية، من طرف كل الفاعلين والمتدخلين والشركاء، وذلك عبر العمل وفق مقتضيات إطار تعاقدي ملزم يهدف إلى مساعدة المتعلم، ضمن كل مساحات التعلم والفعل والتدخل، على تجسيد هويته النفسية والاجتماعية والصحية والرقمية...، عبر إعمال الاستراتيجيات المختلفة بشكل تكاملي، والتي يمكن تركيز أهم مضامينها فيما يلي :الاستراتيجية المستقلة: من خلال هندسة وبناء مشروع تربوي توجيهي بشكل مستقل ومنفصل عن المواد الدراسية؛ حيث يتم تنفيذ هذه البرامج من خلال إدماجه في مشاريع المؤسسة، وبرامج عملها ومختلف الشراكات التي تقدم عليها، ومن خلال نشاطات مرتبطة بقطاعات العمل والإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي والبيئي...، ومن خلال أعمال ومشاريع مرتبطة بالحياة المدرسية وبالبيئة، ويصلح هذا المدخل لتزويد التلاميذ بمهارات حياتية وكفايات مستعرضة مستمدة من محيط المدرسة المباشر وغير المباشر، تساعد التلميذ في تدبير التحولات والمفاجئات التي تعترض مساره الحياتي. الاستراتيجية المندمجة: تنطلق هذه الاستراتيجية من فرضية مفادها أن لكل مادة دراسية بعدين متكاملين:أحدهما نظري يغطي المفاهيم والمعارف والمعلومات، والثاني تطبيقي يعنى بالمهارات الأدائية والنشاطات العملية والوظيفية. وبموجب هذا المدخل تصبح المواد الدراسية مسرحا لنشاطات تشكل معبرا لتوجيه التلاميذ وتنمي لديهم قابليات العمل والتكيف مع المحيط السوسيومهني، وتعطيهم مهارات الاندماج الاجتماعي وخبرات العمل مفهوما وتوجها وممارسة، ليحصل الاستئناس بقيم المجتمع الموجه نحو العمل، ومن تم استدماج ذلك في النسق الشخصي والحياتي للمتعلم، مما يستدعي الإبداع والتنوع والتجديد في أساليب الاشتغال وهيكلة المواد الدراسية بمنطق الأقطاب أو الحقول المعرفية وتنويع استراتيجيات التعلم و التقييم وعدم التقييد بنظام الفرصة الواحدة، والحرص على الربط بين مختلف المواد من خلال ترسيخ الكفايات الممتدة عبر وضعيات حياتية ملائمة، تستحضر مختلف أوجه تقاطع وتكامل المواد فيما بينها؛الاستراتيجية الموازية: يتم وفق هذه الاستراتيجية استثمار الأنشطة الموازية التي يجب أن تتسم بالمرونة وتعتمد المبادرة والإبداع قصد تنمية الحس التربوي الموجه، ومن الأمثلة لهذه الأنشطة نخص بالذكر: تأسيس النوادي العلمية والمهنية والأدبية والمسرحية...، الزيارات الاستكشافية الميدانية، تنظيم لقاءات وحوارات مع بعض المهنيين سواء داخل المؤسسة أو في وسط العمل، مراسلات مع العمال والموظفين ومختلف التنظيمات والمؤسسات، تقديم الآباء لشهاداتهم حول تجاربهم المهنية، ملاحظة العمال في أوساط العمل، تداريب داخل مؤسسات أو مقاولات، ندوات من تنظيم مهنيين أو قدماء التلاميذ، تنظيم زيارات للمؤسسات التعليمية والمهنية والخدماتية، تنظيم أبواب مفتوحة ومعارض مهنية قارة ومتنقلة، إنجاز مونوغرافيا مهنية حول شخصيات معروفة أو آباء التلاميذ، تنظيم حوارات جماعية حول تيمات مهنية معينة...
إن اعتماد منظور وطني تكاملي لمختلف الاستراتيجيات سالفة الذكر، يعتبر مدخلا منهجيا وعمليا لتطوير سياسة مندمجة لتجسير الهوة بين أقطاب مثلت التربية والتكوين والشغل وتمكين المتدخلين والشركاء سواء من داخل المنظومة أو من خارجها من التوفر على إطار منطقي للتشخيص والتخطيط والاستشراف والعمل المشترك ،خاصة في خضم التحول نحو الجهوية في تدبير وتنزيل السياسات العمومية، وتطلعا للإمساك بالخيارات الكبرى لنموذج تنموي يفتح الأمل أمام الشباب للاستفادة من خدمات الدعم والمواكبة والاستشارة والمشاريع والأنشطة المساعدة على تطوير الكفايات المطلوبة في تدبير المسارات الدراسية والمهنية والمنعطفات الحياتية للأفراد.
وفي أفق توفير الشروط الداعمة والتدابير والمواكبة لمختلف الاستراتيجيات المشار إليها سابقا، وجب العمل من خلال مايلي:
إرساء قطب وطني للحكامة يعنى بتدبير المؤسسات والبنيات المسؤولة على وضع السياسات والخطط والوسائل والإجراءات الكفيلة بتحقيق المواءمة بين أنظمة التربية والتكوين وسوق الشغل ، مع تحديد طبيعة الخدمات المقدمة ومستويات تصريفها، وتدقيق صيغ الولوج ومعايير الجودة وآليات التتبع والمراقبة. ويتولى هذا القطب أيضا وضع صنافة للمهن والإطار المرجعي للكفاءات والمهن، ونشر معطيات حول سوق الشغل وعالم المهن، وإعداد دراسات تعنى بتقلبات سوق الشغل ومستجداته؛
إرساء مجلس جهوي للتنسيق يعنى بوضع سياسة جهوية لتأطير التنسيق والتعاون ، يظم مختلف المتدخلين في تحقيق المواءمة بين عروض التكوين وحاجيات سوق الشغل في انسجام مع المخطط الجهوي التنموي.... على أن يشمل هذا المجلس تمثيلية عن القطاعات المتدخلة في التربية والتكوين والشغل والمهتمة بقضايا الشباب والمرأة، من قطاع للتعليم المدرسي والتعليم العالي والتكوين المهني والتشغيل، والجماعات الترابية والمجالس الجهوية للاستثمار ووكالات إنعاش التشغيل والكفاءات واتحاد مقاولات المغرب، على أن يكون عمل هذه الآليات وفق خطط عمل جهوية تعاقدي تضبط المهام وتحدد المسؤوليات؛
إخراج الإطار الوطني للإشهاد للحيز الوجود، لتسهيل عملية تنظيم وتصنيف الشواهد والدبلومات،و إحداث نظام مندمج للتصديق على المكتسبات في إطار التجارب الشخصية والمهنية، لفائدة الأفراد، لمساعدتهم على الاستفادة من إمكانات التجسير وفرص التعلم والتكوين والتوجيه مدى الحياة، وضمانا لحركيتهم جهويا ووطنيا ودوليا ؛
تعميم العمل بمقتضيات المشروع الشخصي للمتعلم باعتباره الإطار الأنسب لتدريب المتعلم على تملك مساره الدراسي والمهني والحياتي، والآلية المثلى لإقداره على إبراز إمكاناته والتعبير عن اهتماماته وتيسير استقلاليته، ودفعه للتموقع في محيط تكوينيي وسوسيواجتماعي في تحول دائم ومستمر ، والوسيلة الكفيلة بمساعدته على هيكلة تفكيره في أفق وضع سيناريوهات واستراتيجيات قابلة للتكييف من خلال توسيع حقل الممكن وفتح الآفاق.
الرباط، في 1 أكتوبر 2018
سؤال ملاءمة نظام التربية والتكوين مع سوق الشغل بقلم عبد العزيز سنهجي - سوسيولوجيا التوجيه المدرسي
بقلم عبد العزيز سنهجي
باحت في سوسيولوجيا التوجيه المدرسي
وعموما، يمكن تصنيف الآراء والأطروحات التي تناولت السؤال المؤطر لهذه الورقة بالدراسة والتحليل، إلى أربع أطروحات متمايزة :
تخزل الأطروحة الأولى الأزمة في نظام التربية والتكوين، باعتباره نظاما جامدا تقليديا منغلقا، لا يشجع المتعلم على الانخراط الفاعل في تحصيل المعارف وتملك الكفايات الأساسية وتطوير المهارات الحياتية، مما يجعل المتعلم في موقع المتلقي السلبي الفاقد للقدرة على التكيف، وعلى اتخاذ القرار بكل ما يلزم من استقلالية ومسؤولية ومرونة. أما معتنقو الأطروحة الثانية، فيوجهون اللوم للنظام السوسيومهني باعتباره نظاما هشا غير مهيكل في مجمله، لا يسمح بتوفير فرص كافية للشغل ولا يتطور بطريقة نمائية ولا يشتغل وفق ميكانيزمات عقلانية وإجراءات مرنة. في حين نجد أصحاب الأطروحة الثالثة يوجهون اللوم لكل من نظام التريبة والتكوين والسوق الشغل باعتبارهما غير قادرين على الاشتغال وفق سياسة منفتحة ومندمجة تحدد الأدوار وتضبط المسؤوليات وتدقق الالتزامات وفق شراكة تستند لمرجعيات موجهة للتنسيق والتعاون والتكامل. وإذا كانت الآراء السالفة فد اختزلت الأزمة في أحد الأطراف أو كلاهما معا، فإن أصحاب الأطروحة الرابعة يحذرون من مآلات ومنزلقات هذه النقاشات التي تتبادل اللوم والاتهام، ويعتبرون أن المشكل يكمن أساسا في هذا النوع من النزوعات التمهينية التي تمتح من المنظورات الاقتصادوية للتعليم، الرافعة لشعار "مواءمة التربية والتكوين للسوق الشغل" ،وكأن المدرسة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل عوض الإعداد للحياة عبر الاهتمام المتكامل بشخصية المتعلم في جميع مكوناتها وأبعادها...
إن انخراط خطاب الفاعلين التربويين والاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين في الترويج لهاته الأطروحة أو تلك، فوت على الجميع فرصة الإمساك بالمعالجة الشاملة والمتعددة الأبعاد لمسألة علاقة نظام التربية والتكوين بسوق الشغل، وأفقد هذا الخطاب طرحه النسقي الاستراتيجي المتماسك المستند على المرجعيات الفلسفية والتربوية والاجتماعية والضوابط الموجهة لكل تفكير في إشكالية علاقة التربية والتكوين بسوق الشغل، وأدخله أحيانا كثيرة في دائرة التبسيط والاختزال للقضايا الجوهرية والإشكاليات المعقدة التي ينبغي التركيز عليها.
إن التأسيس لمنظور إصلاحي متكامل لعلاقة منظومة التربية والتكوين بسوق الشغل، يجب أن يتم برؤية مغايرة ومقاربة مختلفة. ومن هنا تبرز، في اعتقادنا، أهمية اعتماد منطق "المقاربة الموجهة" في تأطير العلاقة بين نظام التربية والتكوين وسوق الشغل. إن التفكير في هذه العلاقة بمدخل التوجيه هو تفكير بمنظور تطوري وتنموي، يقطع مع الأطروحات الستاتيكية والاختزالية، وينخرط ضمن جيل البرديكمات الحديثة، التي ترى في" المدرسة الموجهة" أحد المداخل الاستراتيجية لتكريس الإنصاف والجودة والارتقاء والتعبئة، من خلال إعادة النظر في هندسة نسق التربية والتكوين والشغل. ولعل ما يميز هذا المفهوم، هو غنى مدلولاته الإبستيمولوجية من خلال ما يولده من أفكار وتصورات وأساليب وتدابير للتغيير المخطط في تجسير الهوة بين مكونات مثلث التربية والتكوين والشغل. ولا تكمن أهميته فقط في توجيه أدوار ووظائف مكونات المثلث بشكل متبصر ومنسجم مع منطق العصر المتسم بالتحولات المتسارعة في كل المجالات والأصعدة، وإنما أيضا في إعمال "الفكر الموجه" لهندسة إصلاح يستشرف مستقبلا أصبح التغيير قاعدته والاستقرار استثناؤه...إن التفكير بهذا المدخل في سؤال المواءمة، هو إلتزام صريح باعتماد بوصلة الوظيفة التوجيهية، من طرف كل الفاعلين والمتدخلين والشركاء، وذلك عبر العمل وفق مقتضيات إطار تعاقدي ملزم يهدف إلى مساعدة المتعلم، ضمن كل مساحات التعلم والفعل والتدخل، على تجسيد هويته النفسية والاجتماعية والصحية والرقمية...، عبر إعمال الاستراتيجيات المختلفة بشكل تكاملي، والتي يمكن تركيز أهم مضامينها فيما يلي :الاستراتيجية المستقلة: من خلال هندسة وبناء مشروع تربوي توجيهي بشكل مستقل ومنفصل عن المواد الدراسية؛ حيث يتم تنفيذ هذه البرامج من خلال إدماجه في مشاريع المؤسسة، وبرامج عملها ومختلف الشراكات التي تقدم عليها، ومن خلال نشاطات مرتبطة بقطاعات العمل والإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي والبيئي...، ومن خلال أعمال ومشاريع مرتبطة بالحياة المدرسية وبالبيئة، ويصلح هذا المدخل لتزويد التلاميذ بمهارات حياتية وكفايات مستعرضة مستمدة من محيط المدرسة المباشر وغير المباشر، تساعد التلميذ في تدبير التحولات والمفاجئات التي تعترض مساره الحياتي. الاستراتيجية المندمجة: تنطلق هذه الاستراتيجية من فرضية مفادها أن لكل مادة دراسية بعدين متكاملين:أحدهما نظري يغطي المفاهيم والمعارف والمعلومات، والثاني تطبيقي يعنى بالمهارات الأدائية والنشاطات العملية والوظيفية. وبموجب هذا المدخل تصبح المواد الدراسية مسرحا لنشاطات تشكل معبرا لتوجيه التلاميذ وتنمي لديهم قابليات العمل والتكيف مع المحيط السوسيومهني، وتعطيهم مهارات الاندماج الاجتماعي وخبرات العمل مفهوما وتوجها وممارسة، ليحصل الاستئناس بقيم المجتمع الموجه نحو العمل، ومن تم استدماج ذلك في النسق الشخصي والحياتي للمتعلم، مما يستدعي الإبداع والتنوع والتجديد في أساليب الاشتغال وهيكلة المواد الدراسية بمنطق الأقطاب أو الحقول المعرفية وتنويع استراتيجيات التعلم و التقييم وعدم التقييد بنظام الفرصة الواحدة، والحرص على الربط بين مختلف المواد من خلال ترسيخ الكفايات الممتدة عبر وضعيات حياتية ملائمة، تستحضر مختلف أوجه تقاطع وتكامل المواد فيما بينها؛الاستراتيجية الموازية: يتم وفق هذه الاستراتيجية استثمار الأنشطة الموازية التي يجب أن تتسم بالمرونة وتعتمد المبادرة والإبداع قصد تنمية الحس التربوي الموجه، ومن الأمثلة لهذه الأنشطة نخص بالذكر: تأسيس النوادي العلمية والمهنية والأدبية والمسرحية...، الزيارات الاستكشافية الميدانية، تنظيم لقاءات وحوارات مع بعض المهنيين سواء داخل المؤسسة أو في وسط العمل، مراسلات مع العمال والموظفين ومختلف التنظيمات والمؤسسات، تقديم الآباء لشهاداتهم حول تجاربهم المهنية، ملاحظة العمال في أوساط العمل، تداريب داخل مؤسسات أو مقاولات، ندوات من تنظيم مهنيين أو قدماء التلاميذ، تنظيم زيارات للمؤسسات التعليمية والمهنية والخدماتية، تنظيم أبواب مفتوحة ومعارض مهنية قارة ومتنقلة، إنجاز مونوغرافيا مهنية حول شخصيات معروفة أو آباء التلاميذ، تنظيم حوارات جماعية حول تيمات مهنية معينة...
إن اعتماد منظور وطني تكاملي لمختلف الاستراتيجيات سالفة الذكر، يعتبر مدخلا منهجيا وعمليا لتطوير سياسة مندمجة لتجسير الهوة بين أقطاب مثلت التربية والتكوين والشغل وتمكين المتدخلين والشركاء سواء من داخل المنظومة أو من خارجها من التوفر على إطار منطقي للتشخيص والتخطيط والاستشراف والعمل المشترك ،خاصة في خضم التحول نحو الجهوية في تدبير وتنزيل السياسات العمومية، وتطلعا للإمساك بالخيارات الكبرى لنموذج تنموي يفتح الأمل أمام الشباب للاستفادة من خدمات الدعم والمواكبة والاستشارة والمشاريع والأنشطة المساعدة على تطوير الكفايات المطلوبة في تدبير المسارات الدراسية والمهنية والمنعطفات الحياتية للأفراد.
وفي أفق توفير الشروط الداعمة والتدابير والمواكبة لمختلف الاستراتيجيات المشار إليها سابقا، وجب العمل من خلال مايلي:
إرساء قطب وطني للحكامة يعنى بتدبير المؤسسات والبنيات المسؤولة على وضع السياسات والخطط والوسائل والإجراءات الكفيلة بتحقيق المواءمة بين أنظمة التربية والتكوين وسوق الشغل ، مع تحديد طبيعة الخدمات المقدمة ومستويات تصريفها، وتدقيق صيغ الولوج ومعايير الجودة وآليات التتبع والمراقبة. ويتولى هذا القطب أيضا وضع صنافة للمهن والإطار المرجعي للكفاءات والمهن، ونشر معطيات حول سوق الشغل وعالم المهن، وإعداد دراسات تعنى بتقلبات سوق الشغل ومستجداته؛
إرساء مجلس جهوي للتنسيق يعنى بوضع سياسة جهوية لتأطير التنسيق والتعاون ، يظم مختلف المتدخلين في تحقيق المواءمة بين عروض التكوين وحاجيات سوق الشغل في انسجام مع المخطط الجهوي التنموي.... على أن يشمل هذا المجلس تمثيلية عن القطاعات المتدخلة في التربية والتكوين والشغل والمهتمة بقضايا الشباب والمرأة، من قطاع للتعليم المدرسي والتعليم العالي والتكوين المهني والتشغيل، والجماعات الترابية والمجالس الجهوية للاستثمار ووكالات إنعاش التشغيل والكفاءات واتحاد مقاولات المغرب، على أن يكون عمل هذه الآليات وفق خطط عمل جهوية تعاقدي تضبط المهام وتحدد المسؤوليات؛
إخراج الإطار الوطني للإشهاد للحيز الوجود، لتسهيل عملية تنظيم وتصنيف الشواهد والدبلومات،و إحداث نظام مندمج للتصديق على المكتسبات في إطار التجارب الشخصية والمهنية، لفائدة الأفراد، لمساعدتهم على الاستفادة من إمكانات التجسير وفرص التعلم والتكوين والتوجيه مدى الحياة، وضمانا لحركيتهم جهويا ووطنيا ودوليا ؛
تعميم العمل بمقتضيات المشروع الشخصي للمتعلم باعتباره الإطار الأنسب لتدريب المتعلم على تملك مساره الدراسي والمهني والحياتي، والآلية المثلى لإقداره على إبراز إمكاناته والتعبير عن اهتماماته وتيسير استقلاليته، ودفعه للتموقع في محيط تكوينيي وسوسيواجتماعي في تحول دائم ومستمر ، والوسيلة الكفيلة بمساعدته على هيكلة تفكيره في أفق وضع سيناريوهات واستراتيجيات قابلة للتكييف من خلال توسيع حقل الممكن وفتح الآفاق.
الرباط، في 1 أكتوبر 2018
سؤال ملاءمة نظام التربية والتكوين مع سوق الشغل بقلم عبد العزيز سنهجي - سوسيولوجيا التوجيه المدرسي