من أجل نموذج إرشادي للتوجيه
يستجيب لتحديات الألفية الثالثة
************
بقلم، عبد العزيز سنهجي/ مفتش منسق جهوي بأكاديمية الرباط سلا القنيطرة
الرباط، شتنبر 2020
*****************
يستجيب لتحديات الألفية الثالثة
************
بقلم، عبد العزيز سنهجي/ مفتش منسق جهوي بأكاديمية الرباط سلا القنيطرة
الرباط، شتنبر 2020
*****************
في سياق التنظيم الجديد للتربية والتكوين والعمل، وانسجاما مع التحولات السوسيواقتصادية والتكنولوجية الناتجة عن عولمة الاقتصاد والتقدم المتسارع في اقتصاد المعرفة وتكنولوجيات المعلومات، أصبحت الاستشارة تكتسي مطلبا اجتماعيا وتأخذ بعدا عالميا، وبدأ أخصائيو مجال التوجيه المدرسي والمهني ينظرون بكثير من الريبة والشك للنظريات والمقاربات والتقنيات المعتمدة في مجال التوجيه المدرسي والمهني والجامعي. وقد أدى هذا التشكيك في النماذج والأساليب المستخدمة إلى بروز حقيقة تتعلق بالحاجة إلى منظور جديد لتلبية تطلعات واحتياجات الناس الذين يعيشون في مجتمعات الرقمنة والمعرفة. غير أنه، ولحل هذه المعضلة، يبدو من غير المرجح تعميم نماذج وأساليب جاهزة انتجت في سياقات مغايرة دون تكييفها وتبيئتها من أجل استخدامها. فالدراسات المقارنة والرؤى المتقاطعة والنقاشات المهنية يمكن أن يفضوا لحلول مبتكرة، تساهم في تشكيل قاعدة أساسية للمعرفة في أبعادها النظرية والعملية والسلوكية والمآلية، الكفيلة بتغذية مدخلات وسيرورات ومخرجات النموذج الإرشادي المأمول. وبغية الانخراط في هذا التمرين والمساهمة في هذه العملية الحيوية والضرورية، واستنادا إلى مجموعة من النتائج والمقاربات العلمية المنشورة في مجموعة من الدراسات الأكاديمية والأبحاث العلمية (*)، يمكن تقديم بعض التأملات والخلاصات المؤطرة لوضع لبنات جديدة لنموذج إرشادي يليق بتحديات ورهانات الألفية الثالثة:
على مستوى محدودية وحدود نماذج ومنهجيات التوجيه: إن بناء المسار الدراسي والمهني والحياتي للفرد، هو عمل يهم الفرد، ولا يتوقف على تلك الخبرة الخارجية للمستشار كما كان سابقا، وإنما أصبح دور المستشار يتعلق بمساعدة المتعلم على إيجاد طريقة في التفكير والفعل، ومنهجية للاستفادة من إمكاناته الذاتية ومصادر محيطه المتنوعة والمختلفة. ولعل من بين الأسئلة والتحديات التي يواجهها أخصائيو التوجيه المدرسي والمهني في سياق العولمة والتقدم السريع في تكنولوجيا المعلومات، هي تلك المتعلقة بفرص العمل والشغل، حيث أصبحت أقل قابلية للتنبؤ، في ظل انتقال وظيفي أكثر قلقا وصعوبة وتقطعا. ومن هنا، أضحت أغلب نظريات وتقنيات التوجيه، تتعرض اليوم لانتقادات كبيرة لكونها تنطلق من فرضية إمكانية التنبؤ. والواقع أن السلوك البشري ليس من مسؤولية الفرد فحسب، بل أيضا هو نتاج للتفاعل مع البيئة بمكوناتها المختلفة. لذا مهما كانت الخصائص الفردية مستقرة، فإن البيئة تتغير بسرعة. وهذا هو السبب الذي يجعلنا في حاجة إلى نماذج نظرية تؤكد على المرونة الفكرية واللياقة السلوكية والقدرة على التكيف والتعلم والتكوين مدى الحياة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن نتبع أساليب جديدة لمواكبة توجيه الأفراد وفق مقاربات دينامية تحفز التفكير الإبداعي الممكن لدى الفرد، وتساعده على استكشاف إمكاناته الذاتية. كل هذا، أصبح يحتم إعادة صياغة جل المفاهيم المركزية في نظريات وتقنيات التوجيه في القرن العشرين، من أجل تكييفها مع اقتصاد ما بعد الحداثة. أولا، لأنها تقوم على افتراض الاستقرار والثبات، بالمميزات الشخصية للفرد وخصائص المسارات المهنية، وتنظر إلى المسارات الوظيفية على أنها سلسلة ثابتة من الخطوات والمراحل، بدلاً من النظر إليها عبر منظور ملتو نسقي يوصف الخطوات والإجراءات، مما يحتم النظر لمراحل المسارات الوظيفية كسيناريوهات تعاش بشكل فردي.
على مستوى سيرورة بناء وتدبير مسار الأفراد: إن تفكير الأفراد يتجه اليوم أكثر لإحداث التوازن بين الأنشطة المهنية والحياة الأسرية وتفاعلات العمل والحياة. ولهذا سنلاحظ أن العمال الذين تكون وظائفهم هامشية، أو عشوائية، أو مؤقتة أو يشتغلون لحسابهم الخاص يعيشون قلقاً كبيراً على نحو متزايد، وهو مؤشر عن الرغبة في إحداث التمفصل والانسجام بين حياتهم المختلفة بحثا عن الأمان والاستقرار. ولعل من أهم النتائج الرئيسية للتفاعلات المتبادلة بين الفرد ومختلف مجالات الحياة، هو أنه لم يعد في الإمكان التحدث بثقة كبيرة عن التوجيه المهني أو المشورة في المدرسة. بل نحن بحاجة إلى النظر في "سيرورات بناء وتدبير مسار حياة الأفراد" التي يخطط من خلالها الأفراد تدريجيا ً ويبنون حياتهم من خلال مسارهم الوظيفي. حيث لم يعد المراهقون فقط الذين يواجهون السؤال الرئيسي: "ماذا سأفعل بحياتي؟" وإنما جميع الأفراد يواجهون سلسلة من الانتقالات والانعطافات المهنية والتحولات الرئيسية في مجالات حياتهم، سواء كانت تغييرات في الصحة أو العمل أو العلاقات الاجتماعية أو العائلية أو الحميمية. إن الاختيار هنا ليس مسألة رغبة واهتمام فقط، وإنما ملاءمة بين معايير وأوليات تحددها تجربة وتطلعات الفرد، إنها المفاتيح الرئيسية التي تقود وتشكل خيارات الفرد ومدلولاته الأخلاقية. وقد تشمل هذه المثل العليا تحقيق الذات، وتحقيق الإنصاف والعدالة الاجتماعية، والاحترام المتبادل، أو الاهتمام بالآخرين... وهذه العناصر هي التي تعتمل في تفكير الفرد، وتشكل حتماً مرجعا للفرد للانخراط في المستقبل أو ترصيد الماضي أو بناء الحاضر. كل هذه الاعتبارات الأخلاقية ليست جديدة في نشاط التفكير في حياة المرء. وإنما كانت حاضرة دائما في تأملات الشباب الذين كانوا قلقين بشأن اختيارهم للتوجيه. ومع ذلك، في مجتمع اليوم، الاعتبارات الأخلاقية لها أهمية نفسية أكبر للاعتبارات التالية: أولاً، يضطر الأفراد الآن إلى التفكير في أكثر ما يهمهم، لأن الفرد يشعر بأنه محروم ومعزول في عالم يفتقر فيه للدعم النفسي والشعور بالأمن والأمان الذي توفره البيئات الأكثر "تقليدانية"؛ ثانياً، يدرك الناس على نحو متزايد المخاطر الجديدة التي تشكلها طريقة حياتهم الحالية. وبالنظر إلى هاتين الظاهرتين، يبدو من الأهمية بمكان أن يحاول أخصائيو التوجيه بناء نماذج تأخذ بعين الاعتبار الحالات وخصائص السياقات، وينبغي أن يتيح لهم استخدامها مساعدة الأفراد المشاركين في بناء مشروع حياتهم فهم سياقهم الخاص والتعامل معه.
على مستوى إعادة صياغة أهداف مواكبة مسارات الأفراد: إن العلاقة الجديدة بين الفرد وعوالم الدراسة والتكوين والشغل تقتضي وضع عُدد جديدة وتنفيذ مخططات مواكبة لتنمية كفايات وقدرات الأفراد، وينبغي أن تساعد هذه التدخلات التوجيهية الأفراد على التفكير في جودة حياتهم ضمن السياقات التي يعيشون فيها. والهدف من هذا التفكير هو مساعدتهم على حل المشاكل التي قد تنشأ عندما ينخرطون في بناء حياتهم، وذلك بالتوفيق بين احتياجاتهم ومتطلبات السياقات، ولا سيما احتياجات الدراسة والتكوين والعمل. إن مشاكل التوجيه المعاصر، المتعلقة بالطريقة التي يبني بها الأفراد حياتهم، تؤدي إلى سؤال بحثي مختلف عن تلك التي صيغت سابقاً بشأن المطابقة بين الفرد والمحيط المهني: ما هي عوامل وعمليات بناء الشخص لنفسه؟ في حين أنه من المهم دائمًا فهم كيفية اختيار الناس لمهنتهم وكيفية تطور المسارات المهنية بمرور الوقت، إلا أننا نحتاج الآن إلى فهم أفضل لكيفية بناء الأفراد لحياتهم من خلال أعمالهم ووظائفهم. ويجب أن نسعى إلى الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن للأفراد أن يبنوا حياتهم على أفضل وجه في المجتمع البشري الذي يعيشون فيه؟ وتبرز هذه المسألة البحثية على الفور الحاجة إلى مراعاة الأنشطة في مختلف مجالات الحياة، بدلا من مجرد مجال العمل. ومن خلال المشاركة في أنشطة تتوافق مع أدوار مختلفة، يحدد الأفراد تلك التي يتردد صداها مع ما هو محوري وأساسي بالنسبة لهم. ومن خلال أنشطتهم، فيما يتعلق بخطاباتهم حول تجاربهم، يبني الناس أنفسهم، ومن تم يتم بناء مسارات الحياة، خاصة عندما يتخذون خيارات تعبر عن مفاهيمهم الذاتية. ويتم بناء مفهوم الذات أيضًا، من خلال تجارب محددة يعيشها الأشخاص في مختلف البيئات التي يتواجدون بها، ويستند الإرشاد في التوجيه على هذه الخبرات كموارد مهمة لمشاريع بناء الحياة. ويمكن تغيير مفهوم الذات للناس عن طريق تجارب جديدة أو حتى في بعض الأحيان عن طريق مراقبة سلوك الآخرين، فمصالحهم ليست مغلقة ونهائية تماما، وذواتهم ليست جامدة وإنما في بناء وإعادة بناء دائمين.
متغيرات النموذج الإرشادي الداعم للأفراد في بناء وتدبير مسارات حياتهم
يجب أن نؤكد أن هذا النموذج الإرشادي يتأسس على التطور والنماء الدائمين للأفراد والاقتصاد والمجتمع. ويحتاج لتوفير البيانات والمعرفة والمهارات المطلوبة لمحللي السياقات البيئية والمعطيات غير الخطية والحقائق الذاتية المتعددة والنمذجة الدينامية والعمل وفقًا لذلك. إن التأسيس لهذا المنظور الجديد لتطوير نموذج إرشادي داعم لمشروع تدبير المسار الحياتي في ظل تحديات القرن الحادي والعشرين، يتطلب الانتباه للمتغيرات التالية:
متغير السياقات والحالات والمميزات: لقد تأثر علماء النفس في القرن العشرين بالعلوم الدقيقة، واعتبروا أن هناك قوانين علمية عالمية قادرة على التحكم في السلوك البشري. لذلك يركز البحث على سمات الشخصية وعوامل الاستعداد من أجل وصف كل من الأفراد والمهن. ثم، بعد ذلك، استخدموا ملفات توصيف جانبيات الأشخاص لتشخيص أفضل تطابق بين الشخص والبيئة، ومن تم تقديم خطة خاصة لطالبي الاستشارة. ولتحسين هذه التشخيصات والقرارات من حيث التوجه أو القابلية للتوظيف، أدخلوا المهارات الفنية والمهارات الاجتماعية، سواء كانت مهارات أساسية أو قابلة للتحويل أو محددة. وتتمثل المفارقة الأساسية في كون هذه الأساليب تقود المستشارين إلى البحث عن أفضل المطابقات الممكنة بين خطط حياة من يستشيرونهم وظروف البيئة، باستخدام الأدوات والطرق التي تحد من تأثير المعلومات السياقية. غالبًا ما يعتمد خبراء الاستشارة التدابير الموضوعية والملامح الموحدة في تقديم استشاراتهم. هذه الأساليب لا تزال غير كافية لوصف الأشخاص الذين يتفاعلون في سياقات متعددة وكيف يتكيفون معها. يجب أن يُنظر إلى الهويات المهنية على أنها تغيير في أنماط حياة الشخص، بدلاً من الاقتصار على نتائج اختبارات يفترض أنها ثابتة ومجردة ومبسطة. فالفرد ونظامه الإيكولوجي يشكلان كيانًا معقدًا وديناميا ينتج عن التنظيم الذاتي للتكيف المتبادل مع مرور الوقت.
متغير السيرورة عوض الوصف الجاهز: أظهرت دراسة طولية أجراها مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة (2002) أن الشباب دون سن 36 يغيرون وظائفهم في المتوسط كل عامين تقريبًا. في حين أكدت دراسات أخرى، أن الأفراد أصبحوا يزاولون أكثر من مهنة، ومعظم المهن غير مستقرة، و70 في المئة من مواليد اليوم سيمارسون مهن غير موجودة أصلا...، لذا فإن الاختيار الوحيد لوظيفة واحدة مدى الحياة هو أسطورة أكثر منه حقيقة. ومن المؤكد أنه في القرن العشرين تم توظيف العديد من الناس لعقود عمل طويلة الأمد على أساس تكريس الولاء والأمن. والمفارقة الحالية هي أن خبراء الاستشارة يواصلون تحليل الوضع بنفس الطريقة والمقاربة من حيث الحياة الوظيفية، في حين أن الناس يغيرون وظائفهم باستمرار. وبالنسبة لغالبية الناس الذين يلجؤون إلى خبرة مستشاري التوجيه، لم يعد التحدي يتمثل في اتخاذ خيار مهني واحد، بل تحمل المسؤولية في سيرورة بناء مسارهم الوظيفي وتكوين هويتهم. لذا من الأفضل التركيز على استراتيجيات فعالة لحل المشاكل والبقاء على قيد الحياة وديناميات التكيف والتخطيط لبناء الحياة عبر مناقشة مع أولئك الذين يستشيرونهم "كيف يفعلون؟" وليس "ماذا يفعلون؟"
متغير الدينامية النسقية عوض السببية الخطية: إن التفكير العلمي التقليدي المؤسس للنماذج الإرشادية خطي واستنتاجي. يمكن أن يكون مفيدًا وفعالًا حقًا عندما يتعلق الأمر بتطبيق قانون عام، فالعديد من خبراء الاستشارة في التوجيه التقليديين يقومون بممارسات عامة ومبنية على أساس فرضية أن مهارات الشخص ومصالحه قد تسمح لهم بالتنبؤ بالتطورات المستقبلية في حياتهم المهنية. ومن المفارقات أيضا أن المستشارين لا يزالون يؤمنون بالتفسيرات السببية الخطية. إن الافتراض القائل بأن المهارات والاهتمامات كافية للنجاح في عمل أو تدريب معين لم يعد صحيحًا. وينطبق الشيء نفسه على الاعتقاد بأن مثل هذه المطالب مستقرة ويمكن التنبؤ بها. صحيح أن بعض المهارات مثل الذكاء العام أو بعض القيم الأساسية للأشخاص مستقرة نسبيا. لكن النقطة الأساسية هنا هي أنه عندما يبني الناس حياتهم ويعيشون في كنفها، فإنهم لا يعتبرون مهاراتهم واهتماماتهم غير قابلة للتغيير والتحويل. علاوة على ذلك، حتى في مواقف التفاعل مثل الإرشاد التوجيهي، لا يستطيع أي أحد التأكد من سلوك الآخر بطريقة عقلانية، حتى أثناء التفاعل البسيط في حل المشكلات، تتغير المواضيع والتعاريف بشكل مستمر، وغالبًا ما تكون غير خطية. إن التغيير المأمول في نماذج ومنهجيات الإرشاد التوجيهي هو توسيع المنظور من نصيحة بسيطة تتعلق بقرار توجيه إلى خبرة في البناء المشترك ودعم الأفراد في بناء كلي لمسار حياتهم، ولحل المشكلات واكتساب خبرة متعددة التوظيفات والاستعمالات، يجب على أخصائيي الاستشارة اعتماد استراتيجيات متنوعة واستخدام أدوات وأساليب عديدة ومختلفة. ولمرافقة هذه المهمة المعقدة المتمثلة في بناء مسار حياة الفرد، سيتطلب الأمر العديد من الجلسات والكثير من المواكبة بالتعاون مع طالب الاستشارة ومع من يهمه الأمر، وصياغة وتدقيق فرضيات العمل لاختبارها وتقييمها، كما يجب تكرار هذه العملية بشكل دوري للوصول إلى حلول مرضية وقابلة للتطبيق في الحياة.
متغير الحقائق السردية عوض الحقائق العلمية: خلال القرن العشرين، تم ترتيب المسارات التي يتبعها الأفراد وفقًا للمعايير المجتمعية المعمول بها: التدريب أولا، ثم العمل، وأخيرا الأسرة. حيث كان التكامل والاعتراف الاجتماعي يعتمدان بشكل أساسي على هذه النظم المرجعية. اليوم، على الأقل في المجتمعات الغربية، نشهد تنوعًا متزايدًا في الحقائق الفردية، بعيدًا عن المسارات التقليدية. قد يعود الأشخاص إلى المدرسة في أي عمر، وهناك من تدربوا ولم يحصلوا على الوظيفة، وهناك من فقدوا وظائفهم، وفقدوا أسرهم عبر الطلاق، دون أن يفقدوا اعترافهم الاجتماعي، ويبدو أن هذه التطورات المجتمعية كنتيجة طبيعية تبرز أهمية التعايش بين هويات متعددة وحقائق ذاتية. حتى اللجوء إلى الاختبارات الموحدة والمقننة، المؤسسة على الحسابات الإحصائية، تعطي اليوم انطباعًا خاطئًا، وتؤدي إلى نبوءات قد تتحقق تلقائيا وذاتيا ويصعب التحقق من صحتها وموثوقيتها. من المفارقات أيضا، أن المستشارين يحاولون فهم الأفراد عبر لغة التواصل التي قد تتم بمصطلحات ومفاهيم لا تنتمي بالضرورة إلى إطارهم المرجعي اللغوي. مما يفضي لنتائج غير منسجمة مع حالة الأفراد، وهذا يطرح سؤالا كبيرا حول مصداقية مخرجات هذه العملية. إذا كانت هناك طرق متعددة لتفسير تجارب الحياة المختلفة للأفراد، فمن الممكن أيضًا تصور وجهات نظر ومشاريع مختلفة لبناء حياة الفرد. ويتمثل دور مستشاري التوجيه في تعزيز وتمكين الفرد من التكيف المرن مع النظام البيئي الخاص به، وبالتالي فتح آفاق جديدة للتنظيم الذاتي أو التعاون المشترك. ويفترض أن تساعد المشورة الإرشادية الفرد في عمليات بناء حقائقه الذاتية المتعددة، بدلاً من الاعتماد على معايير موحدة، حيث يظل المهم هو مساعدة الفرد على التفاعل مع محيطه ليجد له معنى ودلالة في رؤية نفسه عبر زوايا جديدة.
متغير النمذجة عوض التوصيف: قد نحتاج إلى معالجة تقييم النتائج وكيفية ضمان جودة التفاعل في توجيه المشورة. إن المنهج التجريبي الذي يقارن نتائج مجموعتين (مجموعة تجريبية ومجموعة ضابطة) نادراً ما يكون مناسبًا للبحث في مجال الإرشاد التوجيهي. حيث إن المشاريع الشخصية للأفراد تكون متفردة، وبالتالي مختلفة. هذا هو السبب في أن تفاعل المشورة الفعالة يمكن أن يتكيف مع المستفيد فقط، فإن تم تحويله إلى علاج نمطي موحد سيقلل من فائدته ومفعوله. نجد أنفسنا، اليوم، نواجه صعوبات مماثلة عندما نحاول تحديد نتائج تفاعل المشورة من خلال متغير تابع واحد، حتى عندما نستخدم متغيرات جديدة مثل الرضا والارتياح فيما يتعلق بالقرار، والتكيف مع المواقف الجديدة، وقبول وضعه الشخصي. كما يمكن أن يؤدي الاعتماد على الإحصاءات الوصفية البسيطة إلى نجاح محدود فقط، لأن الدعم النفسي يعالج العديد من الحقائق الذاتية، والتي تختلف أصولها وفقًا للشخص، وتتعدد أسبابها غير الخطية، مع مراعاة التغييرات في الافتراضات المسبقة وتعاريف المشاكل أثناء التفاعل.
متغير المشروع الشخصي للفرد عوض الاختيار القار:
سيصبح المشروع الشخصي للفرد ضمن الرؤية الجديدة للاستشارة ذلك الجواب المنهجي الذي سيساعد الفرد على هيكلة تفكيره وسلوكه وأدائه ومنتوجه، وسيقود إلى توفير عناصر إجابة عن ثلاثة أسئلة مركزية: من أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف يمكن تحقيق ما أريد؟، هذه هي الأسئلة المؤطرة لكل تفكير او فعل يستند الى مقتضيات المشروع الشخصي للفرد، إنها أسئلة تستحضر ذلك التفاعل الخلاق بين الفرد وما يطرحه من أهداف مستقبلية. مما سيدفع خبراء الاستشارة إلى التركيز حول الكيفية المساعدة والداعمة للفرد ليجد طريقة للاستثمار الجيد في ذاته ومحيطه. وبالتالي، مساعدتنا لهذا الفرد ستكون من أجل إقداره على تمك منظورا منهجيا لاعتماده في تحقيق طموحاته وأهدافه، عن طريق توقعها وتوفير ما يلزم من وسائل وشروط ومستلزمات لتحقيقها. هكذا سيصبح المشروع الشخصي للفرد تلك الآلية التي ستحيل على مجموع السيرورات والمراحل والمنعطفات التي يقطعها الفرد في إطار نموه الجسمي والفكري والنفسي والاجتماعي، وفي علاقاته المتعددة والمتشعبة بمختلف الفاعلين التربويين والاجتماعيين والاقتصاديين، المكونين لبيئة مؤسسات التربية والتكوين والشغل والتنشئة الاجتماعية التي يمر بها الفرد ويتفاعل معها، وينمو ويتطور أيضا في مناخ اجتماعي وثقافي وسياسي له محدداته وإكراهاته وخاصياته النوعية.
إن إحداث القطعية مع الممارسات التقليدية في سياق تحديات الألفية الثالثة، لن يتأتى إلا بتغيير النماذج الإرشادية وطرق تقديم المشورة لمساعدة الأفراد على تدبير وقيادة مشاريعهم الدراسية والمهنية والحياتية. سيكون من المفيد بناء ونمذجة هياكل تقييمية تستحضر المتغيرات السالفة، قصد تقييم نجاعة وفعالية وأثر هذه التدخلات، بهدف التنبؤ بالتمظهرات المستقرة للمتغيرات، بدلاً من النظر في النتائج من زاوية المتغير الواحد. هذا من شأنه أن يعطي الأمل في أن تنتهي وإلى الأبد واحدة من أهم الانتقادات للاستشارات في مجالات الدراسة والعمل والحياة، وهي عدم وجود أدلة تجريبية كافية حول موثوقيتها وفعاليتها.